على غير عادتي، قررت أن أعيش أجواء المونديال في دورته الجديدة هذه السنةبمقهى عمومية بأحد الأحياء الشعبية.
وعلى
الرغم من أن شروط الراحة لم تكن دائما متوفرة بالشكل المطلوب فقد أعجبت
بهذه التجربة من أول يوم الشيء الذي جعلني أواظب على متابعة جل المباريات
المبرمجة غير آبه لا بالحالة المهترئة لمعظم الكراسي التي قدر لي الاستواء
عليها و لا بطبيعة الدخان المنبعث من سجائر الكثير من الزبناء و لا بضجيج
المارة و السيارات و لا حتى بالمشاجرات المحدودة التي تندلع من وقت لآخر
بين صعاليك متمردين على النظام الاجتماعي القائم و نادلات مستضعفات
اضطرتهن الظروف إلى كسب لقمة العيش بتوزيع المشروبات وبيع السجائر
بالتقسيط في سياق رجالي محض.
وخلال مواكبتي لهذا الحدث الكروي العالمي الهام لاحظت بأن الجماهير كانت تأتي كل يوم إلى المقهى بهدف مختلف
وبقابلية
عجيبة للتأويل و المناقشة تغنيك عن تحليلات التقنيين الرياضيين
والإعلاميين المتخصصين. و هكذا، و في مرحلة أولى، اشرأبت الأعناق للتأكد
من جودة الإرسال التلفزيوني أولا ثم للتحقق ثانيا من مدى احترام السلطات
العمومية بجمهورية جنوب إفريقيا لدفتر التحملات المرتبط بهذه التظاهرة
الدولية و خاصة على مستوى البنيات التحتية الرياضية.
وبعدما
اقتنع الجميع بصلاحية الصوت و الصورة و التعليق، و بعدما اقتنع الجميع
أيضا بجدارة دولة نيلسون مانديلا في التنظيم بالنظر بالخصوص إلى المشاريع
الهندسية العملاقة المستحدثة انصب الانتباه على التباري و صانعيه من
لاعبين عاديين و لاعبين نجوم و مدربين و حكام بغض النظر عن انتماءاتهم
العرقية و الوطنية. لقد كان المراد في هذه المرحلة هو التفرج على لوحات
كروية تمتع العين و تشفي الغليل مهما كانت جنسية توقيعها و رصد عطاء
الأبطال السابقين واستقراء أداء المنتخبات المتوسطة و الصغيرة لتكوين فكرة
عن الصورة العامة لخصوصيات أول مونديال ينظم بالقارة السمراء.
وشيئا
فشيئا تطورت الأمور و أصبح هدف الجماهير الأساسي هو مساندة الفريق الوطني
الجزائري. و لهذا التعاطف ما يبرره طبعا، فالأمر يتعلق هنا بأشقاء و جيران
مباشرين و حالة التشنج التي تميز علاقات البلدين في الوقت الراهن ما هي
سوى سحابة صيف ستزول حتما في يوم من الأيام لتفتح من جديد جسور التلاقي و
التعاون و التكامل لأن الدم أثقل من الماء و لأن وشائج الدين و اللغة و
التاريخ أقوى من أن تهزمها الصراعات الضيقة العابرة. للأسف، لم يكتب
لمسيرة ممثل الأمة العربية الوحيد أن تدوم طويلا إذ أبى فريق الولايات
المتحدة الأمريكية إلا أن يلقي في شباكه قنبلة نابالم حارقة قضت على آماله
بصفة نهائية في الوقت الميت من مباراته الثالثة و الأخيرة. تجرعت الجماهير
مرارة الخيبة و تحملت وقع الهزيمة و انسحبت من المقهى في انتظار غذ رياضي
عربي أفضل.
وبالموازاة
مع هذا التعاطف لوحظ تعاطف من نوع آخر، ذلك أن شريحة محدودة من المتفرجين
ظل قلبها يخفق على إيقاع أداء المنتخب الفرنسي. لم لا وفرنسا لا زالت
حاضرة بالأذهان و الوجدان على الرغم من مضي أكثر من نصف قرن على
استقلالنا؟ لم لا و هي شريكنا التجاري الأول؟ لم لا و حالتنا المدنية
مزدوجة اللغة؟ لم لا و أكثر من نصف مليون مغربي يقطنون على أرضها و
يساهمون في استكمال بنائها؟ لم لا و معرفة العديد من مواطنينا بباريس أكبر
من معرفتهم بالرباط؟ ... للأسف، تكالبت المشاكل التقنية والصراعات الشخصية
على الفريق فغادر المنافسة في وقت مبكر و على نحو مخجل.
وبعد
إقصاء الجزائر و فرنسا عاد عشاق الكرة للبحث عن موطئ قدم بفضاء المقهى و
في نيتهم إفراغ ولائهم وتعاطفهم في من تبقى من الفرق الإفريقية. و هنا
أيضا لا مجال للاستغراب بما أن البلدان المعنية تقاسمنا الجغرافيا
والتخلف
و الأمية و الجهل و التبعية الاقتصادية و الاستلاب الثقافي و خصوصيات أخرى
ليست دائما سلبية بالضرورة... و استمرت المغامرة بنجاح و تمكن الفريق
الغاني من بلوغ دور الربع. للأسف، عاكسه الحظ و فشل في بلوغ دور النصف على
الرغم من تقديمه لصورة مشرفة جدا عن واقع ممارسة كرة القدم بالقارة. ومرة
أخرى خبرنا خيبة الأمل و شاهدنا الدموع و هي تنهمر على خدود النساء و
الرجال دون تمييز.
وكان
من المنتظر أن نستأنف متابعة هذا العرس الكروي بهدف جديد، إذ وقع الإجماع
هذه المرة على مؤازرة من تبقى من الفرق "الفقيرة" و خاصة فريق الأوروغواي
الذي اعتبرناه التجسيد الحي للإصرار و المثابرة و الاجتهاد على الرغم من
محدودية الموارد المادية و البشرية بما أنه يمثل بلدا بإشعاع ثفافي و علمي
شبه غائب و بساكنة صغيرة و قدرات اقتصادية متواضعة. لقد رفضنا رفضا قاطعا
أن تستأثر إحدى دول نادي الأغنياء بكأس العالم من جديد و تمنينا من أعماق
قلوبنا أن تكون للفقراء من أمثالنا الكلمة الفصل في هذا التجمع العالمي
لنعطي الدليل على أن الذكاء الرياضي ليس حكرا على المترفين بل هو خاصية
كونية تحتاج فقط إلى حسن التدبير و التأطير. للأسف، سقط آخر الفقراء واقفا
كالنخلة أمام ذهول الجميع في دور النصف و بسقوطه تحول مفهوم الإرادة إلى
مجرد وهم ... و عادت جماهير المقهى إلى بيوتها و هي تعاني من خيبة أمل
جديدة و في نيتها استئناف دعمه بعد أيام معدودة في مباراة النهاية الصغيرة
عله يظفر على الأقل بالمركز الثالث في ترتيب النهائيات. للأسف، لم يكتب له
ذلك أيضا و اكتفى باحتلال المركز الرابع إذ فرض منطق القوة من جديد نفسه و
تمكنت الماكينة الألمانية من إنقاذ ماء الوجه باحتلالها للمركز الثالث.
وبعد
هذه السلسلة المتواصلة من الإحباطات وجد الجمهور أخيرا عزاءه في تأهل كل
من هولندا و إسبانيا للمباراة النهائية لا لشيء سوى لأنه لم يسبق لأي
منهما أن توج باللقب العالمي على الرغم من توفرهما ـ و منذ مدة طويلة ـ
على بطولتين احترافيتين وطنيتين تحظيان بمتابعة جماهيرية و إعلامية منقطعة
النظير في القارات الخمس و تنشطهما فرق عريقة و متمرسة من الطراز الرفيع.
و قد توقعت أن ينقسم الجمهور خلال النزال الأخير إلى طائفتين متساويتين
دون أن يعني ذلك بالضرورة توفر مقاييس مضبوطة للوقوف في هذا الخندق أو
ذاك. لم يكن تكهني في محله إذ عاد رواد المقهى إلى كراسيهم قبل مغرب يوم
11 يوليوز و في نية معظمهم التعاطف اللامشروط مع المنتخب الإسباني. قد
يعود ذلك لاعتبارات رياضية صرفة أو لطبيعة علاقة الجوار المتميزة التي
تجمعنا به، و قد يعزى الأمر أيضا ـ وهذا احتمال ضعيف ـ لصعود اليمين
المتطرف إلى سدة الحكم ببلد الطواحين البرتقالية في المدة الأخيرة مع ما
قد يفرزه هذا التحول السياسي من انعكاسات سلبية على جودة حياة أبناء
جاليتنا هناك... و فازت الجارة الشمالية بالكأس و خرجت الجماهير المغربية
إلى الشارع العام ببعض مدننا و هي تردد : "تحيى إسبانيا" و تلوح بالأعلام
الإسبانية. و هنا توقف دماغي عن التفكير حتى إشعار آخر.
إضافة لها علاقة بما سبق :
اعترف لي أحد الأصدقاء مؤخرا بأن قلبه كان مع إسبانيا في مباراتها ضد
ألمانيا لأسباب لم يستطع تحديدها بشكل واضح و مقنع. و عندما كان الصراع
على أشده بين الفريقين بادر معلق قناة الجزيرة الرياضية إلى إخبار
المشاهدين بمواظبة أحد اللاعبين الألمان على قراءة آيات من الذكر الحكيم
قبل كل مقابلة. في ذلك الوقت بالذات استحضر صديقي محاكم التفتيش و مأساة
الموريسكيين و هشاشة وضع المهاجرين المغاربة السريين العاملين بالمزارع
الأندلسية، كما استحضر مجانية النقل التلفزي التي وفرتها إحدى القنوات
التلفزيونية الألمانية لفائدة المستضعفين عبر العالم فتوقف على الفور عن
مساندة الإسبان وحول وجهة قلبه صوب الألمان... لا داعي للاستغراب، فقد سمي
القلب قلبا لكونه لا يكف عن التقلب.